خاص: الحق في الصحة وجائحة كورونا: الربح فوق الحياة

لن أنطلق في مقالي هذا بخطبة عصماء عن الحق في الصحة، أو حتى الحق في التمتع بالرعاية الصحية المناسبة، ولن أذكركم بأنهما إحدى الحقوق الأساسية، والتي كفلها الإعلان العالمي لحقوق الانسان. هذا كلّه تحصيل حاصل، وهو لا يحتاج إلى تجديد عقد اجتماعيّ يشمل هذا البند الجوهري في كينونة الإنسان، والذي ينبثق من الحقّ في الحياة، وامتداداً طبيعيا له. استطاع العلم – مشكوراً- التقدم في مجال الطبّ؛ إذ أصبح من الممكن بسهولة استطالة حياة الإنسان، وتحسين نوعيتها بالرغم من وصول الإنسان إلى سِنّ الكهولة. ولا يمكن الآن، ونحن في القرن الحادي والعشرين، وبعد كل الإعجاز الطبي الذي وصلنا إليه، التخلّي عن ترياق الحياة هذا، وأن نقبل بأن يباغت الموت الإنسان، بسبب ضعف إمكانية العلاج، أو انعدام أو حتى نقص الحصول على الرعاية الصحية الملائمة.


لا يختلف وباء كورونا، في بزوغه عن الأوبئة الأخرى التي مرّت في تاريخ البشرية، حيث اعتبر كلّ وباء في بدايته غامضاً، ومُقلقاً، وحصريّاً، ما إن يُخيّم بشبحه على منطقة حتى يشلّها، زاحفاً بغبطة المنتصر إلى أخرى، محوّلاً حياة الناس إلى كابوس. وقد تزداد فجاجته حين يفتك بخبثه إنساناً، نخرته أصلاً حفنة أمراض مزمنة، ليستكمل متمماً دورة حياة الإنسان، مسبباً وفاته. وبالرغم من أن الفايروس محتال، إلا أنه غيرُ مُسْتعصٍ، فهو قابل للترويض، إذا ما كُبِحَ جماحه بتوفير الرعاية الصحية المناسبة لمن تسلّل إليه، وذلك إلى حين إنتاج لقاح أو عقار يكون قادراً على قهره والسيطرة على جموح انتشاره.


ما يحصل غالباً في هذه المرحلة وإبّان هذه الجائحة، هو موت البشر بسبب نقص الرعاية الطبية لهم؛ وهو موت لا يكابده ملايين الفقراء في الدول النامية فحسب، بل يمتد ليعاني منه مواطنو الدول الغنية أيضاً، والذين إما استثنوا من نظام الرعاية الصحية أصلاً، أو وجدوا نظام الرعاية الصحية في بلادهم غير مؤهل لمواجهة الطوارئ الطبية. وربما يعرف الأسرى الفلسطينيون أفضل من غيرهم، معنى غياب الرعاية الصحية حين يحتاجونها، فقد سقط عدد من الشهداء نتيجة الإهمال الطبي من سلطات الاحتلال الإسرائيلية[1].


كشفت جائحة كورونا الأخيرة، ضعف النظام النيوليبرالي المعولم، أو كما اصطلح على تسميته سمير أمين “بالليبرالية المنفلتة”. لقد ساد النظام المذكور العالم بعد انهيار المنظومة الاشتراكية في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات، معتمداً على التحرير المطلق أو شبه المطلق للتجارة الدولية، حيث تجاوزت الرأسمالية حدود الدول التقليدية، وفُتِحت الأسواق على سياق معولم. وجاء تطور الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والنقل، ليعني للعالم أن سوق الصناعات المعولمة تعتمد في إنتاجها على سلاسل قيمة طويلة نسبياً، قد تمتد على عدة دول أو قارات، من توفير المواد الأولية، وحتى توفير أسواق الاستهلاك. ويدور الحديث اليوم على تحرير قطاعات الخدمات لصالح التجارة الدولية، كمرحلة جديدة من تحرير التجارة العالمية.


ما حصل فعلاً هو أن الوباء اللعين، وما اعتمل عنه من الحاجة إلى القطاع الصحي، قد عرّى حقيقة النظام النيوليبرالي المعولم، وقد اتضح لنا ضعف الاستثمار بالقطاع الصحي العام، حتى في الدول الغنية مثل: فرنسا، وإيطاليا، والولايات المتحدة الأمريكية، منذ حُوّل عدد من الخدمات التي كان يقدمها القطاع العام للقطاع الخاص، بدعاوي إعادة الهيكلة، وتحقيق الكفاءات الاقتصادية. أما الدول النامية، فحكايتها مختلفة بعض الشيء، إذ يعاني قطاعها الصحي من ضعف القدرة على تقديم الخدمات، ومن سوء الخدمات بشكل عام، ما يجعله غير مؤهل لتلبية حاجات المواطنين في الظروف العادية. فكيف يكون الحال في ظروف الطوارئ!


أنكى ما وصلت إليه الإنسانية، أنك عندما تتتبّعُ خريطة التقسيم الدولي للعمل والإنتاج، ترى أن إنتاج الأدوية والمستلزمات الطبية لم تسلم من ذلك التقسيم أيضاً، حيث تخصصت الصين، وتركيا في إنتاج الأقنعة وأدوات الحماية الطبية، فيما تخصصت الهند في إنتاج المواد الأساس، التي تدخل في الصناعة الدوائية. ومع اجتياح الأزمة الكورونية العالم، ارتفع الطلب على المستلزمات الطبية، وغيرها من أجهزة التنفس والإنعاش؛ فوجدت دول العالم نفسها تواجه نقصاً كبيراً في المستلزمات الطبية بشكل عام، مع منع أو تحديدٍ للكميات التي يمكن تصديرها الى دول العالم. وقد أدى هذا النقص العالمي، إلى تفاقم الأزمة الصحية في الدول التي ضربها فايروس كورونا بقسوة، مما أدى لازدياد أعداد المصابين والموتى في أنحاء العالم.


ومع انتشار مظاهر المزايدة على المستلزمات الطبية، وقرصنتها، وإدارة الظهر للدولة الأكثر حاجة؛ تستطيع رؤية القبح ومرحلة الإفلاس الأخلاقي الذي وصل اليوم النظام العالمي الحالي لدى مواجهته هذه الجائحة. ومن المظاهر التي ترافقت مع تحرير التجارة بالدواء والمستلزمات الصحية، هي وصفات إعادة الهيكلة وتخفيض النفقات العامة التي قدمتها المؤسسات المالية الدولية -البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بالذات- حيث قدمت هذه المؤسسات بدورها النصائح اللّقمانية ومارست الضغوط على الدول لتغيير أنماط إنفاقها على القطاعات الاجتماعية، ومنها قطاع الصحة، بهدف تخفيض العجز في ميزانيات الدول، وتحقيق معدلات أعلى للنمو. وقد عمّت هذه الوصفات الدول الغنية والفقيرة كافة، بل يمكن القول أن النظرية النيوليبرالية قد أصبحت كالعقيدة الدينية لدى النخب الحاكمة في معظم الدول النامية والمتقدمة. مثلاً، ألغى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نظام الرعاية الصحية الشاملة الذي أقره سلفه أوباما، والذي كان من الممكن أن يوفر التغطية الطبية لملايين المواطنين الأمريكان في فترة الأزمة. خلال الثلاثين عاماً الماضية، خسرت فرنسا وإيطاليا مئة ألف، وتسعين ألف سرير طبي على التوالي، نتيجة خفض الإنفاق الحكومي على القطاع الصحي، بناء على توصيات الاقتصاديين النيوليبراليين. والجدير ذكره هو ظهور فرع كامل من الاقتصاد  يُعنى باقتصاديات الصحة حصراً. حيث أصبح القطاع الصحي خاضعاً لحسابات الربح والخسارة، وفق النظرية النيوليبرالية في الاقتصاد، أي أخذ نقطة التلاقي ما بين العرض والطلب لتحديد الأسعار، دون الاعتبار أن حياة البشر أغلى وأهم من كافة الحسابات الاقتصادية.


ومن الجدير ذكره أن الممارسات الاحتكارية لشركات الدواء الكبرى في أزمة انتشار فايروس الإيدز في أفريقيا أقرب مثال على ذلك، حين رفضت الشركات المذكورة تخفيض أسعارها، أو السماح للحكومات الإفريقية بإنتاج بدائل دوائية لعقارات تمنع انتقال فايروس الإيدز من الأم إلى جنينها أثناء الحمل، على قاعدة حماية ملكيتها الفكرية وعائدها الاقتصادي. وربما تعتبر صرخة الأطباء الفرنسيين حول السماح لهم باستعمال عقاري (هيدروكسي كلوروكين وزثروماكس)–وهما دواءان رخيصان ومتوفران بكثرة، وقد أظهرا فاعلية في علاج الكورونا وفق عدد من المختصين- في علاج مرضى الكورونا، إلا دليلاً على مدى تدخل شركات الدواء الفرنسية في النظام الصحي، لمحاولة تسويق مضاداتها الفيروسية غالية الثمن.


أما في الدول النامية، فالصورة أسوأ بكثير، إذ تعاني العديد من الدول النامية من ضعف قطاعاتها الصحية، وعدم قدرتها على تلبية الحاجات اليومية للمواطنين. فلا تتوفر لديها الأسرّة الطبية الكافية، ولا الكميات الكافية من الأدوية، ولا حتى كفايتها من الطواقم الطبية لعلاج حالات الطوارئ.


ويمكن هنا دراسة أوضاع السلطة الفلسطينية من واقعنا الحالي، إذ يظهر عدم قدرة قطاعها الصحي على مواجهة التحديات والطوارئ. فوِفق تقرير الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة-أمان- عن الإنفاق التطويري في القطاعات الاجتماعية الصادر عام 2019، أن القطاع الصحي الفلسطيني يعاني من فجوة تمويلية سنوية تقدر بـ 1,400 مليون شيكل، مما انعكس سلباً على قدرات القطاع الصحي الفلسطيني للاستجابة للحاجات الصحية للمواطنين. ولتلبية هذه الحاجات؛ تم إنشاء نظام من التحويلات الطبية للمستشفيات الإسرائيلية والإقليمية، يعتمد بشكل أساسي على شراء الخدمة الصحية من الخارج، بدلاً من بناء القدرات في النظام الصحي الفلسطيني وتوطين الخدمات حيث صرفت السلطة ما معدله 700 مليون شيكل سنوياً في السنوات العشرين الماضية على نظام التحويلات هذا. كما كان من الممكن تغطية الفجوة التمويلية للقطاع الصحي، بإعادة توجيه النفقات من قطاع الحكم، الذي يستهلك 43% من الموازنة السنوية للسلطة الفلسطينية، وخصوصاً لإعادة إصلاح قطاع الأمن، الذي يبلغ إجمالي الإنفاق السنوي عليه حوالي 5,8 مليار شيكل. تُظهِرُ التحليلات المختلفة إمكانية خفض هذه الموازنة إلى النصف، عبر إعادة هيكلة قطاع الأمن، ودمج الأجهزة الأمنية المختلفة، وإلغاء التداخل والتقاطع بين أنشطة الأجهزة الأمنية، بما يلبي الحاجات القطاعية في الحق  في الصحة والتعليم، وأيضاً يوفر فائضاً لتحقيق التنمية الاقتصادية.


تطرح الأزمة الحالية نهاية النظام النيوليبرالي العالمي، الذي شهدناه في الثلاثين عاماً الماضية. هذا النظام الذي أفرز اقتصاداً عالمياً حجمه 85 تريليون دولار سنوياً، وديناً عالمياً بمقدار 250 تريليون دولار، دون حلٍّ لمشاكل الفقر والبطالة والتغيّر المناخي، بل مُنِيَ هذا النظام بالفشل الكامل في معالجة أول أزمة صحية معولمة يواجهها الجنس البشري. وهذا يبشّرُ بنهاية ما أصطلح على تسميته “بالتنمية المخصخصة”؛ وهي التنمية التي يلعب  فيها القطاع الخاص دور القائد للتنمية والموجِّهِ لها، مقابل دور الدولة في قيادة وتوجيه العملية التنموية على مستوى البلد الواحد. وتقتصر “التنميةُ المخصخصة” على تحقيق النمو الاقتصادي، دون الالتفات إلى جوهر العملية التنموية وهو: الإنسان، محاولة عبر مصطلحاتها التي تقدم بها مبدأ الشراكة ما بين القطاع العام والخاص والأهلي، إلى تحجيم دور الدولة مقابل صعود مفاهيم الربح والاستثمار، ليصبح دور الدولة مكملاً للقطاع الخاص[2]، ويتخلّى المواطن عن مفاهيم الحق في الصحة والغذاء والتعليم والحياة. فلا تعود الدولة مطالبةً بتوفير هذه الحقوق، وإنما هي مهمة السوق وفق مفاهيم الربح والخسارة. وطالما أصبح القطاع الخاص هو موجه التنمية، فإن استثماراته التي تحكمها مبادئ الربح والمنافسة في سياق التجارة الدولية المحررة، لن تُوجَّه لتحسين وضع البشرية، بل لمُراكمة رؤوس الأموال.


وفي ظل نظام عالمي يتسم باللاعقلانية، حيث يتواجد بليونيريات العالم جنباً إلى جنب مع الجوعى، حيث تساوي ثروة أغنى ثمانية أشخاص في العالم، ثروة النصف الأفقر من البشرية؛ فإن تغيير هذا النظام إلى نظام أكثر إنسانية يصبح ضرورة مُلِحّة، نظام يعيد توزيع مصادر الثروة، التي أنتجتها البشرية وفق حاجاتنا كجنس بشري، ووفق فكرة أننا جزءٌ من نظام بيئي أكبر. وهنا تحضرني مقولة باري كومونر[3]: “بوسعنا تعلم درس أوّلي من الطبيعة، فليس بوسع أي شيء النجاة على الكوكب، ما لم يكن جزءاً تعاونياً من كُلٍّ أرضيّ أكبر”. 




[1] كتب هذا المقال قبل يوم أو يومين فقط من استشهاد الأسير نور البرغوثي في زنازين سجن النقب بسبب إهمال الاحتلال المتعمد في إسعافه الفوري (هيئة التحرير)


[2] كان المثل الأوضح على هذه الشراكة هو ربط حصول المواطن على معاملاته لدى الدوائر الحكومية فقط بعد تسديد ديونه لدى شركة الكهرباء مع استلام سلام فياض رئاسة الوزراء، كما تكرر سيناريو شبيه في العام 2014 مع رامي الحمد الله الذي صرح انه ووفق نظام براءة الذمة سيمنع من السفر كل من تقدمت ضده شركة الكهرباء بشكوى تخلفه عن الدفع.


[3] باري كومونر: عالم أحياء خلوي أمريكي، كان عالماً رائداً في مجال البيئة ومن بين مؤسسي الحركة البيئية الحديثة. (هيئة التحرير)