أين تقع الانتخابات في الاستراتيجية الوطنية الفلسطينية أو هل نتقن التكتيك؟
بقلم أبيّ العابودي
الناظر للمشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي الفلسطيني، بالذات فيما يتعلق بالضفة الغربية وقطاع غزة، يلاحظ تدهورًا غير مسبوق في كافة المؤشرات ذات العلاقة، فمن فقدان الثقة بالأحزاب القائمة وبمجمل النظام السياسي لدى المواطن الفلسطيني، إلى ارتفاع غير مسبوق بمستويات البطالة والفقر، إذ تبلغ وفق الأرقام الرسمية 27% متعطلين عن العمل -وفق تقديرات لا مجال للخوض بتفاصيلها الآن قد تصل لخمسين بالمئة ممن هم بعمر العمل- وثلث الأسر الفلسطينية تعاني من الفقر، أما بالنسبة للجريمة والعنف فقد ارتفعت مستوياتها، إذ رصدت المؤسسات النسوية ارتفاعاً وصل إلى 20% بنسبة النساء اللواتي توفين في ظروف غامضة في العام الماضي، وتنتشر في وسائل الإعلام المختلفة أخبار الجريمة التي أصبحت تأرّق كل أسرة فلسطينية.
وفي مقابل كل هذا وصل مسار أوسلو السياسي إلى نهايته المتوقعة، فلم يؤدِ مسار التسوية لا إلى دولة ولا إلى ازدهار اقتصادي كما وعدنا عرابو الاتفاق، الذين أطنّوا آذاننا بالحديث عن أن فلسطين ستتحول لـ”سنغافورة الشرق الأوسط”، فاليوم يعاني قطاع غزة من حصار غاشم جعل ثلثي أسره تعاني من انعدام الأمن الغذائي الشديد للمتوسط، ويقضم الاستيطان الأرض الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس، وترتكب عصابات المستوطنين الإرهابية الجرائم يوميًا بحق أهلنا في القرى الفلسطينية، وبالذات الفلاحين المتواجدين على أراضيهم في المناطق المصنفة ج. وأصبحت الحاجة لمغادرة هذا المسار والبدء بمسار بديل محط إجماع -ولو لفظي- لدى كافة النخب الفلسطينية، ومحط قناعة شعبية لدى جماهير شعبنا، فهنا تصبح الاستراتيجية؛ الخروج من مأزق أوسلو، أما التكتيك، فكيف.
يجب على التكتيك ألا ينتهك الاستراتيجية ويجب على الاستراتيجية أن تترجم لخطوات ملموسة يوميًا، لتتحول من برنامج عام إلى ممارسة يومية، وفق هذه القاعدة يجب على كافة القوى والشخصيات التي تود تحديد موقفها من المشاركة بالتشريعي أن تحسم أمورها، فهل المشاركة في انتخابات المجلس التشريعي سيشكّل تعزيزًا لأوسلو أم مغادرة له؟ وهل مغادرة أوسلو تتطلب هدم البنى التي أنشأتها السلطة من أجهزة مدنية وطبية وتعليمية وأمنية؟
إن الإجابة على السؤال أعلاه مركبة، فعملية مغادرة أوسلو تتطلب إرساء القواعد المادية للبديل، وليست عملية إرادوية بإلغاء اتفاقية أصبحت بحكم الملغي في اللحظة التي اجتاحت فيها الدبابات الإسرائيلية المدن في الضفة الغربية في العام 2002م، وهذه القواعد المادية تتعلق ببناء اقتصاد صمود وتوفير الحد الأدنى من الخدمات من تعليم وصحة وعمل وغذاء، وهذا كله عملية تاريخية لا تحدث بيوم وليلة، وهنا يصبح سؤال المشاركة في الانتخابات من عدمها أكثر تعقيدًا من مجرد الإجابة البسيطة.
مدخل الحل والربط ما بين الاستراتيجي والتكتيكي يقع في تغيير وظيفة السلطة والمجلس التشريعي، أي في تحويلها لجهة خدماتية تقدّم ما تستطيع من خدمات للمواطنين دون دور سياسي والذي يجب أن يعود لمنظمة التحرير، ومن هنا يصبح التعامل مع المجلس التشريعي كمجالس المقاطعات في سويسرا أو كمجالس الولايات الفردية في الولايات المتحدة الأمريكية، إذ تختص هذه المجالس بالأمور الداخلية في كل ولاية دون أخذ الدور السياسي الذي يبقى للحكومة المركزية، وهنا تتطلب المشاركة في المجلس التشريعي الوضوح في البرنامج السياسي، أي نشارك لتغيير دوره ولا نشارك لننخرط في الوضع القائم، وتغيير الدور هذا مرتبط بشكل وثيق بسحب امتيازات الجهات المتنفذة من طرفي الحكم في الضفة والقطاع وإخضاعهم لمستويات مختلفة من الرقابة والمسائلة الشعبية، فلا يظن أي شخص أن الجهات المتنفذة في الحكم مرتاحة أو قررت الإعلان عن الانتخابات بملئ إرادتها، فمن صادر العملية الديموقراطية لخمسة عشر عامًا، وثبت بمراسيم رئاسية و/أو بالعنف نظام حكم أوتوقراطي في الضفة الغربية ونظام حكم ثيوقراطي في غزة، غير مستعد لأن يخضع لسلطة الجماهير أو مقاييسها، واليوم تتزايد الشكوك حول إمكانية عقد الانتخابات مع توالي المراسيم الرئاسية التي تصادر القضاء والنقابات والعمل الأهلي، وظهور التباينات والتراجع عن الاتفاقيات ما بين طرفي الانقسام.
مدخل التغيير
إن الأولوية اليوم وفي ظل هذا الواقع بناء التيار الشعبي الديموقراطي المنحاز للحقوق التاريخية لشعبنا الفلسطيني، وتحتل أولوية بناء هذا التيار الأسبقية على كافة الأولويات الأخرى، وقد يشكّل الحراك في فترة الانتخابات والتفاعل الاجتماعي والسياسي فرصة لبناء هذا التيار، ولكن انتهاز هذه الفرصة، يتعلّق أساسًا بأداء من يطرح نفسه/ها من قوى وشخصيات كجزء أساسي أو نواة لهذا التيار البديل، وإدارة المعركة الانتخابية كاستحقاق يتعلق بالحياة اليومية لخمسة ملايين فلسطيني في الضفة والقطاع في ظل وضوح الرؤية السياسية للمجموع الفلسطيني، وهذا يمكن تحقيقه وفق التالي:
- التوجه للانتخابات ضمن توافقات مع قوى شعبنا الحية ومستقليه، وأن تكون هذه الانتخابات خطوة في تشكيل التيار الشعبي والديموقراطي.
- الابتعاد عن الصيغ الحزبية الضيقة في التوجه للانتخابات، ودعم تحالفات واسعة من مستقلين وحراكات وقوى اجتماعية أثبتت نفسها خلال السنوات الماضية، بجديتها في دفاعها عن مصالح المجتمع الفلسطيني.
- العمل وفق برامج تعزز صمود الإنسان الفلسطيني على أرضه في الضفة والقطاع.
- العمل على تفعيل الشتات الفلسطيني والداخل الفلسطيني كجسم أساسي من التيار الشعبي الديموقراطي، بحيث يشكل هذا التيار إجماعًا لكافة القوى التقدمية والوطنية الفلسطينية في كافة أماكن تواجدها.
- العمل على تفعيل البناء الديموقراطي لهذا التيار، حيثما أمكن وليشكّل قوة ضاغطة باتجاه إصلاح وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية.
إن أولوية بناء هذا التيار، وإعطاء الزخم للديموقراطية الشعبية الفلسطينية، تتطلب أيضًا الإدراك أن طرفي الانقسام غير معنيين بوجوده، بل وأيضاً فإن أعداء شعبنا من قوى رجعية واحتلال إسرائيلي يسعون أيضاً للقضاء على هذا التيار وأنوية وجوده، فهنا تصبح المهمة مركبة، أي كيف نبني هذا التيار في ظل الهجمة المستعرة عليه، وكيف نحافظ عليه من التفكك والانهيار الداخلي، وقد تكون إحدى أهم المداخل هو شعور الناس بملكيتهم لهذا التيار الذي يتحقق من خلال البناء الشعبي والحوارات القاعدية والتي تتجاوز بضرورتها فترة الانتخابات لتدخل بعملية طويلة ولكنها بالضرورة مثمرة.
وهنا يصبح التساؤل هل الانتخابات ضرورة لتشكيل هذا التيار أم كان من الأجدى العمل عليه ما قبل الانتخابات؟
الإجابة هنا طبعًا أن عملية تشكيل هذا التيار غير مرتبطة بالانتخابات، وكان من الممكن بل الضروري البدء بها من سنوات، ولكن إهمال جو الانتخابات -على محدوديتها- والفرص التي تقدمها لبناء هذا التيار الشعبي الديموقراطي والتسريع في عمله ونشاطه كمن يفضل المسير لهدفه على رجليه بدل الركوب في قطار ذاهب لنفس الاتجاه، فالانتخابات فرصة لتحدي الوضع القائم، وهي فرصة للبناء على أجوائها وتشجيع المشاركة الديموقراطية والاجتماعية والسياسية للجماهير، في ظل حالة من العزوف عن المشاركة السياسية وفقدان الثقة بالأحزاب، وهنا تصبح الانتخابات فرصة نادرة، إذ حتى لو صدقت التوقعات -ومنها توقعي الشخصي- بأنّ احتمالات إلغائها أكثر من احتمالات انعقادها، فإن هذه الانتخابات توفّر فرصة للتفاعل مع الجماهير باتجاه استعادة الجماهير لزمام المبادرة والسيطرة على كافة مناحي حياتها.