الفلسطينيون في فلسطين المحتلة عام 1948: المواطنة في نظام أبرتهايد كولونيالي
بقلم عوض عبد الفتّاح
منذ عقدين ونيِّف، تخضع مواطنة الفلسطينيين في “إسرائيل”، لإعادة فحص من قبل النخب الفلسطينية، حملة المواطنة الإسرائيلية. وقد صدرت أبحاث أكاديمية، وظهرت حركات سياسية، تسعى إلى تفكيك هذه المواطنة، باعتبارها صناعة كولونيالية، وأداة من أدوات السيطرة الكولونيالية الاستيطانية. ودعا بعضهم إلى تجاوزها، وتخيل معادلة مختلفة تنبثق من إعادة قراءة الكيان الإسرائيلي كمشروع استعماري استيطاني إحلالي، ومن كون الفلسطينيين حملة الهوية الزرقاء، جزء من الشعب الفلسطيني، وكونهم يخضعون لاستعمار داخلي، وليس لتمييز فحسب.
وقد جاءت الممارسات والمخططات والقوانين، التي صدرت عن نظام الأبرتهايد الصهيوني، لتعيد التأكيد على أن العلاقة بينه وبين المواطنين الفلسطينيين، علاقة كولونيالية استيطانية، وليست علاقة تمييز عادي تمارسها دولة ضد مواطنيها لأسباب دينية أو عرقية. وكان أحدث مثال على ذلك “قانون القومية” الاستعماري والأبارتهايدي، وما صدر في “صفقة القرن” بخصوصهم، أو جزء كبير منهم، أي تجريدهم من المواطنة الإسرائيلية، ونقلها تحت سلطة رام الله. تأتي هذه السياسات، تتويجاً لأكثر من سبعين عاماً من الاستعمار والاستيطان والفصل العنصري، ومن اعتماد فلسطينيي الـ48 المواطنة، أو المساواة، كمركب مركزي في خطابهم السياسي، وإن تم اعتماده بمفاهيم مختلفة. وكان الحزب الشيوعي الإسرائيلي، العربي اليهودي، هو من اضطلع باكراً بهذه ”المهمة” مبرراً ذلك بالحاجة للبقاء. ولكن دافعاً أيدلوجياً كان وراء هذا الموقف أيضاً، ألا وهو الاعتراف بشرعية الكيان الجديد، تماشياً مع قناعات الجناح الصهيوني في الحزب، بالنظر إلى إسرائيل، وكذلك موقف القيادة الستالينية الداعمة للاتحاد السوفييتي.
لقد وضعت أسس المواطنة الكولونيالية في السنوات الأولى من إقامة إسرائيل، وكانت فترة الحكم العسكري المرحلة التي توِّجت فيها. وتكشف النقاشات الحادة التي دارت، في الأشهر الأولى التي تلت النكبة، داخل قيادة الدولة الاستعمارية الجديدة بخصوص منح أو عدم منح المواطنة لمن نجا من التطهير العرقي من الفلسطينيين، وكذلك التصويت على عضوية إسرائيل، في مجلس منظمة الأمم المتحدة، عن النية الأصلية لهذه القيادة، ألا وهي الرفض. وقد بات معروفاً أن عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة التي رفضت في الجلسة الأولى، تم قبولها في الجلسة الثانية فقط بعد أن التزمت بمبدأ المساواة تجاه جميع المواطنين. حينها، ناقش بعض أعضاء الحكومة الذين رأوا منح المواطنة فائدة لإسرائيل، كونها باباً لمنح الشرعية الدولية للسيادة الصهيونية على نصف الأرض التي كانت مخصصة للدولة العربية حسب قرار التقسيم، وأن عدد الناجين لا يشكلون خطراً على الأكثرية اليهودية، يهودية الدولة. غير أن حكومة إسرائيل، التي كانت ترمي إلى تطهير كامل المنطقة من العرب، قررت تفريغ المواطنة من مضمونها المساواتي، من خلال سن قانون العودة، اليهودي، لعام 1950، وقانون المواطنة لعام 1952، هذا إضافة إلى جملة من القوانين الأخرى والإجراءات الإدارية، التي استخدمت بصورة منهجية لممارسة السياسة الكولونيالية، في كافة المجالات: الأرض، والتعليم، والثقافة، فضلاً عن القمع المباشر. فكيف تعامل الفلسطينيون مع المواطنة الإسرائيلية التي فرضت عليهم؟
يعتبر الفلسطينيون داخل المنطقة المحتلة في العام 1948، أول ضحايا النكبة، ومعهم أقرباؤهم اللاجئين، الذين نُفِّذ بحقهم طرد وحشي، وفصل عنصري، تبعهما سن قانون أبارتهايد، هو “قانون العودة” الذي يجعل العودة حصرياً لليهودي، وبقوانين أبارتهيدية أخرى. لم يعترض الفلسطينيون الباقون على فرض المواطنة عليهم، بل العكس تماماً، سعوا إليها، ومئات الحالات وصلت للمحاكم على مدار عدة سنوات، للحصول على المواطنة، ذلك أن شروطاً صعبة كانت فُرِضت على طلب الحصول عليها. لم يكن ذلك، بالنسبة لهم، سوى حماية من الطرد، وليس للحصول على حقوق في ظل كارثة عظمى نزلت عليهم كالصاعقة، رأوا خلالها مئات الآلاف يُطرَدون ويغادرون بيوتهم مجردين من كل شيء. لم ينظروا في البداية إلى الكيان الجديد إلا دولة مؤقتة، ستجري هزيمتها على يد الدول العربية بعد أن تستعيد قوتها! ما معناه أن قبولهم للمواطنة لم يكن مصحوباً بقبول شرعية الدولة التي سطت على وطنهم، وشتتت شعبهم.
لم يبقَ هناك سوى جزء بسيط من النخب الفلسطينية، كان بعض أفرادها من الشيوعيين، وعصبة التحرر الوطني، الذين انضموا للحزب الشيوعي الإسرائيلي، وهو الذي تبنى أنموذج المساواة. وكان الشيوعيون العرب هم الذين وضعوا ووطدوا هذا الأنموذج، قافزين عن الطبيعة اليهودية والكولونيالية لإسرائيل، التي اعتبروها ”تجسيداً لحق تقرير المصير للشعب اليهودي” . وقد غلَّبوا البعد الطبقي في الصراع على البعد القومي، وكان ذلك تجسيداً للتبعية للاتحاد السوفييتي وموقفه المؤيد والمساند لقرار التقسيم، ومشاركته في دعم إقامة إسرائيل. مع ذلك، لعب الشيوعيون الفلسطينيون دوراً مهماً في تطوير الثقافة العربية من خلال منابرهم الإعلامية والأدبية، ساعدهم في ذلك كونهم المجموعة الوحيدة التي سُمِحَ لهم حسب القانون الإسرائيلي، رفع الصوت ضد الحكم العسكري، ومصادرة الأرض.
لكن هذا النموذج جرى تحديه من قبل حركة وطنية ظهرت عام 1972، هي “حركة أبناء البلد”، والتي رفضت شرعية إسرائيل وقاطعت انتخابات الكنيست. وقد اعتمدت الحركة في فهمها لإسرائيل الخطاب الكولونيالي الاستيطاني الذي كان خطاب الحركة الوطنية الفلسطينية، ومنظمة التحرير الفلسطينية حتى لحظة تبني خطاب الدولتين. وشكّلت الحركة قوة مؤثرة في وعي الطلاب الفلسطينيين، في جميع الجامعات الإسرائيلية. غير أنه لأسباب كثيرة، لا متسع لشرحها هنا، لم تتحول إلى حركة جماهيرية، وإلى لاعب أساسي في تشكيل خطاب الفلسطينيين في الداخل. لكن من المهم الإشارة إلى أن الحركة، التي نشأت كنتاج للوعي الوطني الفلسطيني الناهض، جاءت في مرحلة من التغيرات الاقتصادية الاجتماعية، وبدء تشكّل طبقة وسطى على هامش المجتمع الصهيوني الاستيطاني، والتي دفعت الفلسطينيين إلى البدء بالتعامل مع المواطنة بجدية.
ويذكر أن “حركة الأرض” القومية الناصرية، التي ظهرت أواخر الخمسينات، ببرنامج قومي، كان جرى حظرها، وتشتيت قادتها، من قبل حكومة إسرائيل، رغم محاولتها دخول الكنيست الإسرائيلي، وقبل أن تحل تلك التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي أفرزت لاحقاً أنماط وعي مختلف ومتناقض. وفي أوائل الثمانينات، ظهر تحدٍ آخر لأنموذج المساواة، من خلال ما عُرِف بـ“الحركة التقدمية للسلام” التي خاضت انتخابات الكنيست. ضمن قائمة عربية يهودية، وببرنامج يؤكّد على عروبة الوطنية الفلسطينية، ويظهر الصراع مع الحركة الصهيونية كصراع قومي وليس طبقي. استندت هذه الحركة إلى الطبقة الوسطى التي تعود نشأتها إلى بداية السبعينات. غير أن هذه الحركة لم تعش لأكثر من عشر سنوات، لقصور داخلي.
وفي أواسط التسعينات، وبعد اتفاق أوسلو ظهر تحدٍ آخر لأُنموذج المساواة البدائي، من خلال أُنموذج جديد يطرح موضوع المواطنة المتساوية في إطار دولة المواطنين، ومن خلال تحدي البنية اليهودية للدولة، وضمناً بنيتها الكولونيالية الاستيطانية. ويختلف عن النموذج السابق، باعتباره ليس مطلباً بل تحدياً لديمقراطية إسرائيل، وطريقاً لاستئناف مناهضة الصهيونية، هذه المناهضة التي تخلى عنها أصحاب اتفاق أسلو، ولكن ليس من خارج المنظومة الصهيونية بل من داخلها، لإظهار استحالة تحقيق المساواة للفلسطينيين الناجين من التطهير العرقي، الذين باتوا، بعد أُوسلو وبنظر الموقِّعين، مواطنين إسرائيليين، عليهم النضال من أجل المساواة، على حساب هويتهم الوطنية. جسّد هذا النموذج “حزب التجمع الوطني الديمقراطي”، الذي أقامته “حركة أبناء البلد” (حركة أبناء البلد كانت مشاركة بل مبادرة لإقامة التجمع)، ومجموعة قومية انشقّت عن الحزب الشيوعي، بقيادة عزمي بشارة، الذي أصبح المنظِّر والقائد لهذا الحزب، حتى عام 2007، عندما واجه تهمة “التخابر مع حزب الله في زمن الحرب” وانتهى في المنفى، وأوساط من الحركة التقدمية بقيادة المحامي محمد ميعاري.
لم تكن جميع هذه التطورات والتحوّلات، التي مرت فيها تجربة الفلسطينيين في إسرائيل، وخطاب المساواة، وموضوع المواطنة، بمعزل عن تطورات داخلية، وفلسطينية، وعربية، وإقليمية، لعبت دوراً كبيراً فيها. لقد ساهم الإخفاق العربي، والعجز الفلسطيني، عن تحقيق الانتصار على المستعمر، في خلق خصوصية لهذا الجزء من الشعب الفلسطيني، دفعته إلى ابتكار أنماط وسلوك سياسي مختلف، والتي تخضع لتجاذبات شديدة في أوساطهم، ومن قبل نخبهم، خاصة في الفترة الأخيرة. فبعد وصول خطاب المساواة بمضامينه المختلفة إلى طريق مسدود، واصطدامه الواضح بجدار يهودية الدولة وبنيتها الكولونيالية الاستيطانية الإحلالية، وبعد انهيار وهم حل الدولتين، ورفض عودة لاجئ واحد إلى دياره، بدأ يتشكّل وعي جديد، يتمثّل بالعودة إلى التاريخ، وفق وصف نديم روحانا، إلى جذور التراجيديا الفلسطينية، أي نكبة عام 1948.
ويترتّب على هذه القراءة، لجذور المأساة الفلسطينية، أو الأدق إعادة القراءة، للصهيونية كحركة كولونيالية استيطانية، ليس في الماضي فحسب، بل في الحاضر أيضاً، من خلال تجسيدها إسرائيل، التي أعلنت عن نفسها صراحة، من خلال قانون القومية، وقرار الضم، بأنها نظام كولونيالي وفصل عنصري. ومع أن هذا التطور ينطوي على تعميق للتراجيديا الفلسطينية، إلا أنه يقدم فرصاً لإعادة فحص مجمل السيرورة والسياسات الفلسطينية، عموماً التي اعتُمِدت حتى الآن، من خلال البناء على ما أُنجِز، والتخلي عن أنماط سلوك مدمرة، والعودة إلى جذور الصراع، باعتباره صراعاً أو كفاح شعب ضد نظام استعماري استيطاني، وفصل عنصري.
كل ذلك يعني الدعوة إلى تجاوز المواطنة، والبدء بالتفكير والتخطيط بربط مصير هذا الجزء من الشعب الفلسطيني، بمصير كل الفلسطينيين، بحركة تحرر وطني وديمقراطي، واحدة وشاملة، تسعى إلى تفكيك منظومة الاستعمار، ومعها منظومة المواطنة الكولونيالية، وإنهاء واقع التجزئة، والأجندات والخصوصيات المختلفة والمتضاربة التي نشأت في ظل المشروع الصهيوني التجزيئي. وفي رأيي كما رأي الكثيرين، فإن حل الدولة الديمقراطية الواحدة على كامل فلسطين التاريخية، على أنقاض المنظومة الاستعمارية، هو الكفيل بتوفير المواطنة الديمقراطية، بديلاً للمواطنة الكولونيالية. وتلك مهمة تاريخية كبرى، نبيلة تستحق كل الجهد والتضحية.