هل تشكل الانتخابات علاجاً للأوجاع الفلسطينية المزمنة؟

هل تشكل الانتخابات علاجاً للأوجاع الفلسطينية المزمنة؟

 

من السذاجة بمكان الإجابة بنعم أولاً على هذا السؤال، فالانتخابات شكل من أشكال تجلّي الحياة الديمقراطية في أي بلد، ولكن مسارها ومضمون إجرائها يعبر عن مستوى التطور الديمقراطي في هذا البلد أو ذاك، والذي هو انعكاس لمستوى التطور في الثقافة السياسية للمجتمع، هذه الثقافة التي هي حصيلة لتفاعلات اجتماعية واقتصادية وتاريخية، وليست حصيلة وعظ أو تدريب أو دعاية.

 

أما بالنسبة لواقعنا الفلسطيني في الضفة والقطاع والقدس، ولا أقول مجمل الشعب في الوطن والشتات، فالأمر لا يتعلق بصندوق اقتراع إن عبّر فإنّما يعبر عن صورة المجتمع الذي نخرته سياسة التنفيع والزبائنية، وباتت سلطة العشائر والمفاهيم التقليدية فيه أقوى من أي سلطة مدنية، حيث تراجعت القيم العامة الناظمة لصالح ولاءات مختلفة أغلبها لا ينتمي للمجتمع السياسي المدني، بل لتجمعات أهلية تحكمها أشكال مختلفة من علاقات القرابة العائلية أو المناطقية أو… إلخ. هذه كانت ثمرة مرّة للاعتقاد الخاطئ بأنّ قيام السلطة هو تمهيد لقيام الدولة، هذا الوهم الذي لا زال يكرره ويتغنى به التيار السائد في الحركة الوطنية الفلسطينية، ففي أيام كان البحث عن السلطة والدولة عملاً نضالياً كان الولاء الوطني يسبق كل الولاءات ويهمش أشكال الولاء المختلفة، في حين قامت السلطة وأسست أجهزتها المختلفة أمنياً ومدنياً، اختلف الأمر في ظل عملية تفكيك أنسجة اجتماعية سابقة جراء العولمة وجراء المسار الذي حكمت خلاله هذه السلطة.

 

لقد أدى البحث عن المصالح والمنافع الآنية وليس الخلاف على البرامج السياسية إلى حالة ازدواج سلطة أدى للانقسام، وأوجد فجوة عميقة جعلت طرفي الانقسام يرون في الانتخابات عملية إعادة اقتسام للمصالح سواء عبر التنافس في كتلتين مختلفتين أو عبر التوافق على كتلة واحدة مشتركة، فالعقل الحاكم للطرفين عقل إقصائي لا ينتمي لثقافة الديمقراطية بل يستخدم أشكال تمظهرها كي يحقق مصالح آنية.

 

هل ستحل الانتخابات أزمات السياسة الفلسطينية المستعصية؟ إنّ من فكر بهذه الطريقة كمن يبني المذود قبل أن يشتري الفرس، أو كمن يعالج السرطان بالأسبرين، فالأزمة الفلسطينية ليست أزمة حكم، ولا هي أزمة إنهاء الانقسام الذي لو تخلى كل طرف فيه عن أنانيته ومصالحه الذاتية يمكن أن ينتهي بجلسة أقرب إلى الصلحة العشائرية وفنجان قهوتها.

 

إنّ الحالة الفلسطينية تعيش ما يشبه حالة انسداد الأفق سواء نتيجة إغلاق باب التفاوض لمن يرون في التفاوض فتحاً للآفاق، أو نتيجة انهيار الوضع الإقليمي وزحفه نحو تطبيع مذل مع دولة الاحتلال، أو في ما أسس لتطبيق صفقة القرن، والتي لا يستطيع الاتحاد الأوروبي أو بايدن تجاوزها وفق آخر تصريح لوزير خارجية بايدن حول القدس، أو لتراجع القضية الفلسطينية في أروقة الهيئات الدولية. كل هذا لا تحلّه انتخابات، هناك طرق أخرى صعبة لحلّه، ولا يتحملها المرتهنون للوضع الدولي والإقليمي.

 


من جانب آخر وعلى المستوى المحلي، هل ستوقف الانتخابات هذا السعار الاستيطاني مثلاً؟ هل ستوقف مختلف أشكال العدوان على شعبنا؟ ومن ناحية ثالثة هل ستنهي الانتخابات البطالة؟ هل ستقضي على الفقر؟ هل ستفتح للشباب بصيص أمل بالمستقبل؟ سوف يستخدمون الإحصاءات الأخيرة لا للبحث عن حلول لمشاكل الشباب، بل لاستخدامهم أصواتاً ومروجين حتى لو بأجر وبدون قناعة.

 

على الصعيد العملي ورغم مظاهر التحضير المختلفة لإجراء الانتخابات، إلا أن هناك من لا يزال يشكك في إمكانية إجرائها، مستندين إلى الظروف الإقليمية والدولية من جهة، أو لعدم جاهزية الوضع الفلسطيني بشكل عام لمثل هذه الخطوة من جهة أخرى، والتي يتخوف البعض من أن تكون قفزة في الهواء، أو أنّها لن تحدث دون تنازل سياسي ما، خفي أو معلن.

 

وحتى لو فشلت توقعات من يرى أن لا انتخابات في الأفق، فإن سيناريوهات المشاركة السياسية في الانتخابات تحدّدها عوامل أهمها:


 



  • طول الفترة التي لم تجر فيها انتخابات (15 عاماً)، وهذا العامل وحده كفيل بأن يجعل من المطالبة بالانتخابات أمراً له شعبية، سواء من حيث عملية تجريب تجديد الشرعيات واستعادة مرجعيات معينة للسلطة غابت أو تم شلّها، أم من خلال وجود قطاع واسع من جيل جديد لم يشارك في انتخابات عامة ويريد تجربة فرصته سواء في الانتخاب أو الترشح.

  • وجود قوى شاركت سابقاً في الانتخابات، لكنها وجدت أنّ سياسة التفرد أو تنازع القطبين الرئيسين على الصلاحيات ومغانم السلطة؛ قد حرف القضية التحررية الوطنية عن مسارها باتجاه صراع على سلطة ومكاسب تحت الاحتلال، وهو وبرفضه الدخول لهذه الانتخابات وكأنه يمارس عملية نقد ذاتي لتجربته السابقة، ويحاول دفع الأمور باتجاه إعادة بناء المؤسسة التحررية (م.ت.ف) قبل مؤسسة إدارة سلطة تحت الحكم الذاتي، مستنداً إلى اتفاقات سابقة تمتد إلى عام 2005 وما بعدها.

  • وجود حراكات وكتل اجتماعية ليست ذات طابع سياسي، تجعل من القضايا اليومية والمطالب الاجتماعية الاقتصادية محور نشاطها، وتظن أنّها ومن خلال الاستناد إلى عدد من المنتمين لمجموعات التواصل الاجتماعي التي تديرها، يمكنها أن تحقق كتلة وازنة في المجلس تمنع التفرد أو ائتلاف القطبين.

  • إنّ هذه الانتخابات تأتي في ظل ظرف سياسي أكّد أنّ التفاوض كان عبثياً، وأنّ الأرض تضيق تحت أقدام سلطة الحكم الذاتي، فيما المحيط العربي لم يعد كما كان داعماً ولو لفظياً للمشروع الفلسطيني.

  • وجود إرهاصات بالتغيير في موازين القوى الداخلية في دولة الاحتلال، من خلال حل الكنيست والذهاب لانتخابات جديدة بعد انشقاق الليكود، وإعادة صياغة التحالفات في الكيان الاحتلالي، ما يسيل لعاب البعض لإعادة ترتيب الأوضاع الفلسطينية على مستوى السلطة، للدخول مرة ثانية إلى سرداب مفاوضات معدل أو جديد.


 



كل هذه العوامل وأخرى غيرها سيجعل من معركة الانتخابات، إن حصلت، حالة معبّرة عن التشوه الناتج عن انسداد الأفق، بحيث تبدو هذه الانتخابات مثل كرنفال تنكري، أو سوق دلالة محسومة نتائجه ما دام هناك قطبين عبّرا عن رغبتهما بالاتفاق معاً، ليس على التنافس وإنما على التوافق على كتلة انتخابية واحدة، تماماً كما احتكار السوق الذي يعتقد بأنّه قادر على الإجهاز على المنافسين الصغار.

 

هنا فإنّ الداعين إلى مقاطعة الانتخابات تحت شتى الأسباب، تقع عليهم مسؤولية أيضاً، وهي مسؤولية طرح بديل فعّال وقادر على جذب الجماهير إليه، بمعنى أنّ صاحب برنامج المشاركة سيقدم برنامجه للناس، حتى لو لم ينظر الناخبون إلى البرنامج وذهبوا إلى صناديق الاقتراع بناءً على مواقف فصائلية مسبقة أو عائلية أو مصلحية. أما المقاطعون فهم بأمسّ الحاجة إلى شحذ محاريثهم السياسية، من خلال المنطق السياسي والوطني التحرري كقاعدة أيدولوجية، لكن هذا وحده لا يكفي فقد سئم الجمهور الشعار الأيدولوجي المطلق، وهنا عليه أن يستلّ من الأيدولوجيا خطاباً جديداً يبرّر عدم المشاركة ويقنع الجمهور بذلك، فمعركته بعد 15 سنة من انقطاع الانتخابات وتوق الآخرين لها ستكون صعبة، إلا إذا اكتفى هذا التيار بالموقف وسجله لتاريخ لا يرحم.

 

هنا هل يمكن أن يتعامل هذا التيار المقاطع مع عملية الانتخابات عبر الباب الدوار، أو يستفيد من تجربتَيْ الباسك في إسبانيا والشين فين في إيرلندا، ويخلق توليفة ليست منه ولكن من شخصيات لا ترضى عما جرى ويجري، ولكنها ترى في الانتخابات فرصة، تلك تجربة لم يطرقها هذا التيار، بمعنى أن يدعم تصويت هذه القوى دون مشاركته في الترشح، باعتبار ذلك تكتيكاً خارج السياسة التحررية الوطنية المباشرة، وهو تعامل مع أمر واقع يجب فيه عدم الانعزال، وتشكّل هذه الكتلة أداة احتجاج وتأثير في الحقل السياسي الداخلي الفلسطيني، وكأن الأمر متعلق بإدارة نقابية مباشرة.

 

هنا يجب الانتباه إلى أنّ المطلب القائم الدائم هو عملية الفصل بين المرجعية والأداة، فإذا كانت المنظمة هي المرجعية للسلطة، فإنّ هناك ضرورة قصوى لفطام السلطة وفصلها عن المنظمة باعتبارها بكل كياناتها التشريعية والتنفيذية والقضائية؛ تخضع لمرجعية أعلى تشرعها من الأساس وهي منظمة التحرير الفلسطينية، فقد كان الأجدى هنا أن يصار لإعادة هيكلة بناء المنظمة من القاعدة للقمة، بحيث تصبح مرجعية حقيقية لكل الأدوات التي يمكن أن تنشأ في مسار العمل الوطني، ومنها إدارة سلطة محدودة الصلاحيات على جزء صغير من الأرض الفلسطينية، ومن خلال جزء من الشعب الفلسطيني.


 


هذا هو صندوق باندورا الذي يحذّر أصحاب وهم تحويل السلطة إلى دولة من فتحه، فهم مرتاحون إلى عملية استيداع المنظمة واستدعائها كختم على سياسات سلطة محدودة، تتوهم أنها ستكبر وتصبح دولة في أرخبيل تقطع أوصاله بحور من المستوطنات. لقد استطاع هذا الوهم أن يتسلل إلى صفوف من كان لا يرى في كيان الاحتلال سوى كيان مغتصب، وبات يخفف وطأة الاعتراف بهذا الكيان من خلال الهدنة طويلة الأمد، والتي تشكّل في ظل تحالفات هذا الطرف الإقليمية خطوة نحو التعامل مع وهم السلطة المتحولة إلى دولة ضمن مواصفات محددة، عزز هذا تجربة الحكم في القطاع، حيث خلقت مدة 15 عاماً من ممارسة السلطة في القطاع وهماً جديداً يستند إلى استخدام القوة التي تراكمت عبر هذه السنين والحروب، التي خيضت فيها كوسيلة للتقاسم في الوهم الأكبر الذي تستخدم بقايا المنظمة في تشريعه وتمريره.

 

لذا فإنّ خيار المشاركة في الانتخابات، أو خيار عدم المشاركة ومقاطعة هذه الانتخابات هو سيف ذو حدين، ويحتاج إلى حصافة ودقة في اختيار التكتيكات المناسبة، لكن الأهم هو بناء المرجعية قبل تحضير الأداة.

 

فليس من المعقول بناء السقف دون أساسات وأعمدة؟ بمعنى ليس من المعقول تجهيز السلطة دون علاج أزمات المنظمة؟ وأزمات الإجماع الوطني؟