الوصاية الأردنية على الأقصى: نحو تطبيق “صفقة القرن”
الكاتبة: باحثة في مؤسسة الجذور الشعبية المقدسية
في 20 تموز عام 1951، قَتَل المناضل في الجهاد المقدس، مصطفى شكري عشّو، الملك الأردني عبد الله الأول في المصلى القبلي في المسجد الأقصى. جاءت التصفية انتقاماً من “خائنٍ وعميلٍ قديمٍ للإنجليز، ومتعاونٍ مع اليهود يستحق الموت”[1]، ومنعاً لتسويةٍ سياسةٍ كانت قد انبثقت بعض التخوفاتٍ حول احتمالية قيامها بين الملك و”إسرائيل”.
بعد مرور 43 عاماً، تحديداً في 26 تشرين الأول 1994، وقّع حفيد عبد الله الأول، الملك حسين بن طلال، والذي كان برفقة جدّه لحظة اغتياله بالقدس، ونجا بفعل اصطدام الرصاصة التي تلقّاها بميداليةٍ كان قد أصرّ جدّه -عبد الله الأول- على ارتدائها، على معاهدة “وادي عربة” للسلام مع “إسرائيل”. كان تخوّف الأردن حينها، من تحييد دورها في القدس -بموجب اتفاقٍ بين منظمة التحرير الفلسطينية و”إسرائيل”- دافعاً أساسياً للتسريع بتوقيع اتّفاقية وادي عربة. وقد أفصح هذا التخوّف عن نفسه في نص البند الثاني من المادّة التاسعة من الاتّفاقية التي تتناول المقدّسات والأماكن ذات الأهمية التاريخية، إذ يقول هذا البند[2] :”في هذا الشأن، وفقاً لإعلان واشنطن، فإن إسرائيل تحترم الدور الخاص الحالي للمملكة الأردنية الهاشمية في المقدسات الإسلامية في القدس، وعندما تحصل مفاوضات الحل النهائي فإن إسرائيل ستعطي أولوية عالية للدور التاريخي الأردني في تلك المقدسات”.
حدّد البند السابق الموقف والدور الأردني في المسجد الأقصى، إذ تحوّلت “إسرائيل” بموجبه إلى راعٍ للدور الأردني فيه أمام أية اتّفاقات مستقبلية تتناول الحل النهائي لقضية القدس. كما وحكم التنسيق بين الأردن و”إسرائيل” مجمل الدور الأردني في الأقصى، إلى جانب توظيف قضاياه في مناكفاتهما السياسة وفي مراحل التوتّر بينهما. فيما احتفظ أهل القدس وشبابها، على أرض الواقع، بدورهم المعهود في الدفاع الحقيقي عن المسجد الأقصى ضد الممارسات الصهيونية من جهة وضدّ التخاذل الأردني من جهة ثانية.
بإعلان “صفقة القرن” في 28 كانون الثاني 2020، انكشفت المساعي الإسرائيلية، ومن ورائها الأمريكية، في فرض سيادة إسرائيلية كاملة على القدس والمسجد الأقصى لا ينازعها بها سواها. إذ أثنت الصفقة على دور “إسرائيل” الإيجابي “كحارس” للأماكن المقدسة، كما ورد في القسم الخامس من الصفقة والذي يتناول القدس: “بعد حرب الأيام الستة عام 1967، عندما سيطرت إسرائيل على القدس بأكملها، تحمّلت مسؤولية حماية جميع الأماكن المقدسة في المدينة. على عكس عدد من القوى السابقة التي حكمت القدس، ودمّرت الأماكن المقدّسة للأديان الأخرى، فإن دولة إسرائيل جديرة بالثناء لقيامها بحماية المواقع الدينية للجميع والحفاظ على الوضع الديني القائم. بالنظر إلى هذا السجل الجدير بالثناء لأكثر من نصف قرن، فضلاً عن الحساسية الشديدة في ما يتعلق ببعض الأماكن المقدسة، نعتقد بأن هذه الممارسة يجب أن تبقى، وأنّ جميع الأماكن المقدّسة في القدس يجب أن تخضع لأنظمة الحكم الموجودة اليوم. يجب خصوصاً أن يستمر الوضع الراهن في جبل الهيكل/ الحرم الشريف دون انقطاع “[3] وتحدد الدور الإسرائيلي فيها بـ:”الحفاظ على وحدة القدس وجعلها مفتوحة أمام الجميع، والاعتراف بقداستها للجميع بطريقة تحترمهم”[4].
إذ أن ما تشير إليه عبارة “الحفاظ على الوضع القائم في المسجد الأقصى، والسماح لمختلف الديانات بالصلاة فيه” هو تكريسٌ للاقتحامات للمسجد الأقصى من قبل ميليشيات الصهاينة، بما تمثله هذه الميليشيات من قوة تنفيذية بالوكالة لإنفاذ مخططات “إسرائيل” الاستعمارية ومساعيها للسيادة الفعلية على مدينة القدس والمسجد الأقصى، بينما تغطّي مهمتها (إسرائيل) بالذرائع الدينيّة تارةً وبالخطاب الليبراليّ حول حقوق الإنسان والحريّة الدينيّة تارةً أخرى، مدعيّةً الحفاظ على “الوضع القائم” ومتوسّلةً بالحجج الأمنيّة و “حريّة العبادة للجميع”.
ولا يمكن لنا أن نغفل البعد التاريخي الاستعماري لاختزال القدس كمكان ديني، والذي قادته القنصليات والسفارات الأجنبية في منتصف القرن التاسع عشر، بحجّة حماية الرعايا والأقلّيات من غير المسلمين، ممهّدةً بذلك الطريق للسيطرة الاستعمارية الإنجليزية، ولاحقاً الصهيونية.
وعليه يمكن النظر إلى السيطرة الإسرائيلية الدينية على القدس والمسجد الأقصى مدخلاً للسيادة السياسية الفعلية بما يعنيه ذلك من سلب لإرادة أهلها الفلسطينيين، والذين لا تمثل القدس لهم مكاناً دينياً فحسب.
لم يكن تدويل القدس باعتبارها مكاناً دينياً يستوجب ضمان حرية العبادة مرتكزاً يوماً على مبدأ الحريّة، بل دائماً ما ارتبط بمساعي السيطرة الاستعمارية، استناداً على التحوّل في الخطاب من “التحضير وصولاً إلى تقرير المصير” نحو خطاب ليبرالي يتبنّى شعارات الحرية الفردية وحرية العبادة، والاعتقاد بـ “عالمية الأخلاق”.
بالنظر إلى ما سبق، أي إلى المحدّدات التي حكمت الدور الأردني في الأقصى، تغدو “الترتيبات الجديدة” التي تطرحها صفقة القرن بما يتعلق بالمسجد الأقصى محصّلة طبيعية لما مهّدت له “إسرائيل” في الأقصى منذ سنوات وسكتت عنه الأردن بل وساهمت فعلياً في إنجازه، وصولاً إلى تمكين “إسرائيل” لاحقاً من فرض سيادة فعلية على القدس عبر فرضها كاملة على المسجد الأقصى. كما أن الإقرار بأن قضية القدس هي قضية دينية بحتة لا قضية سياسية، سيمهّد الطريق أمام حسم القضية سياسياً لصالح “إسرائيل”، مع الإبقاء على الترتيبات الدينية بما يراعي “الاعتراف بقداستها للجميع”، وهو ما سيشكّل أيضاً، مدخلاً ترويجياً لتطبيع علاقات الدول العربية والإسلامية مع “إسرائيل”. وهو ما تحاول السعودية فعله في السنوات الأخيرة، فقد وقف النظام الأردني قبل أكثر من عقد من الزمن في وجه استعداد السعودية لترميم مسجد قبة الصخرة، حيث رأت في ذلك تجاوزاً لدورها المرسوم. لكن السعودية أعادت الكرة مع إعلان صفقة القرن، حيث حاولت السعودية التدخل في شأن المسجد الأقصى مرة أخرى لتثور حفيظة النظام الأردني الذي يبدو أنه استسلم للمساعي السعودية في نهاية الأمر لتقاسم إدارة المسجد الأقصى معها، لتكون مدخلاً آخر نحو تطبيق صفقة القرن.
ختاماً لا بد من الإشارة إلى أن الفشل الإسرائيلي في حسم قضية الأقصى لا يرجع أساساً إلى الموقف الأردني أو الإقليمي أو الدولي، إنّما إلى الانتصارات التي حقّقها المقدسيون بصمودهم وإرادتهم، والتي فرضت -في كثيرٍ من الأحيان- تغيير مسار الموقف الأردني -ظاهرياً على الأقل-، وإن أي تعويل مستقبلي للتصدّي للصفقة ومواجهتها ينحصر أساساً في هذه الفئة التي حملت ولا تزال تحمل همّ القدس والأقصى، حتّى انعكس هذا الهم في رؤيتها لذاتها: “حاملة الأمانة التي فرّط فيها الجميع سواهم”.
[1]https://al-akhbar.com/Opinion/244279
[3] Peace for Prosperity: “A Vision to improve the lives of the Palestinian and the Israeli Peoples”.
[4] Ibid.