ثورة 23 يوليو: نقطة مفصلية في التاريخ العربي

تصادف اليوم ذكرى مرور 68 عاماً على ثورة 23 يوليو في مصر، كما صادف في يوم 14 يوليو ذكرى ثورة العراق على الحكم الملكي فيه لينتهي إلى الأبد. لقد قامت الثورتان عبر انقلاب عسكري أطاح بحكمين ملكيين فاسدين ومرتبطين بالاستعمار. لكن طبيعة هذه الانقلابات لم تكن مجرّد انقلابات عسكرية أزاحت ملكًا ونصبت حاكمًا، إنما توفرت لها إرادة شجاعة وجسورة في مكافحة الاستعمار والتخلص منه مع موقف جذري من الصهيونية وكيانها. عدا عن موقفٍ غير مهادنٍ من الرجعية العربية التي كانت على مقربة من الدخول في أحلاف استعمارية مثل حلف بغداد الذي ناهضه الخالد جمال عبد الناصر، فيما أسقطه عمليًا عبد الكريم قاسم، حينما اجتث نظام الحكم الملكي في العراق وحكومة نوري السعيد التي كانت تدفع بقوة نحو الدخول في حلف هو باسم عاصمة العراق (حلف بغداد).

إضافة إلى ما سلف من إنجازات ثورية على المستوى التحرري القومي، أسست ثورة عبد الناصر لمنهج اقتصادي اجتماعي جديد في الوطن العربي؛ وهو منهج تفكيك أجهزة الدولة العميقة، واستعادة أموال الشعب المنهوبة، إضافة إلى الإصلاح الزراعي وتوزيع الأرض على الفلاحين الفقراء، وتأميم المرافق الحيوية في البلاد للاستفادة منها في المشاريع التنموية، التي تجعل من الثروة القومية ملكًا للشعب ترفع من مستوى معيشته.

فقد أمّم الحكم الناصري قناة السويس وأنهى سيطرة فرنسا وبريطانيا عليها، وتكبد لأجل ذلك حربًا، فقد شنت كل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل عدوانها الثلاثي عليه عام 1956. كما أمّم العديد من أملاك الأسرة المالكة والإقطاعيين، واستطاع من خلال حركة التأميم هذه أن يوفّر احتياجات تنمية مستقلة تحاول الفكاك من التبعية للسوق العالمية، واستطاع عبر ما توفّر من ثروة ودعم من الاتحاد السوفيتي، بناء السد العالي الذي وفّر الكهرباء لكل الريف المصري، وشكّل رمزًا وركيزًة لنهضة القطاع زراعي وصناعي في دلتا النيل والصعيد، ونهضة مصر الحديثة عمومًا في حقبة ما بعد الاستعمار.

كما أمّم الحكم العراقي الجديد الثروة النفطية العراقية، التي كانت تحت سيطرة شركات استعمارية متعددة الجنسيات، إضافة إلى الإصلاح الزراعي والنهوض بالعراق على الصعيد العلمي والاقتصادي والاجتماعي.

لقد حوّلت الثورتان التعليم بكافة مراحله إلى تعليم مجاني، كما جعلت من الصحة مرفقًا يستطيع كل المواطنين الوصول إليه مجاناً، عدا عن العديد من الإصلاحات في مختلف المجالات.

في ظل هذه الظروف قامت وحدة بين سوريا ومصر لم تعمر طويلاً، بسبب تآمر البرجوازية السورية التابعة على أول تجربة للوحدة العربية، لكن منهج الثورة المصرية استمر بالتأثير في أقطار عربية أخرى، فبعد تحرر الجزائر من الاستعمار الفرنسي اختارت طريق ناصر الاشتراكية، وشكّل انتصار حزب البعث في سوريا سندًا للتجربة الناصرية، كما شكّلت ثورة عبد الله السلال في اليمن تحديًا ناصريًا على الحدود الجنوبية للرجعية السعودية وحلفائها.

ورغم مرور حوالي نصف قرن على انقلاب الخائن السادات على التجربة الناصرية، إلا أنها لا زالت تعيش في وجدان العرب والمصريين كنقطة ضوء تشع أملاً. فقد كانت ثورة 23 يوليو ردًا على مهزلة الأسلحة الفاسدة في حرب فلسطين عام 1948، وشكلت حالة نهوض قومي إضافة إلى أن هيبة الزعيم عبد الناصر قد أدخلته إلى أبواب التأثير الدولي وقيادة منظمة دول عدم الانحياز التي شكّلت كتلة مؤثرة في السياسة الدولية.

هل كُتِبَ على العرب ألا تكون ثوراتهم سوى انقلابات عسكرية؟

 لا،  لكن الجيوش في هذه البلدان كانت أكثر القوى الاجتماعية تنظيمًا، حيث لم تكن الأحزاب بهذه القوة التي تستطيع عبر النضال الجماهيري، الوصول إلى السلطة، ولا كانت هناك نقابات قوية تقود جيوشًا من العمّال في مجتمع غالبيته العظمى فلاحين، ومعظم بنى الجيوش العربية هي من أبناء الفلاحين، هذا عدا عن أن التحرّر الوطني والوحدة القومية كانا الأكثر حضورًا في وعي ووجدان المواطنين، فيما لم تكن كل الظروف مواتية لبناء مجتمعات مدنية حقيقية قائمة على الديمقراطية وفق النموذج الغربي، هذا لا يبرّر للتجربة الناصرية إغفالها للديمقراطية، ولكنه يؤكد على أن للديمقراطية شروطها الاجتماعية التي يمكن إنضاجها من خلال حل القضايا الاقتصادية الاجتماعية، إضافة إلى التحرر من بقايا الاستعمار.

نحن نكتب الآن عن ثورة لا زالت صور صاحبها تعلق في ملايين البيوت العربية، وبالتالي حري أن نستلهم دروس هذه الثورة.