انهيار وهم اليقين وتلاشي التوقع في زمن كورونا

لا نداء في الجوامع ولا أجراس للكنائس تعلن عن الموت في المدن الكبرى. موت أخفته المجتمعات الرأسمالية رغم توافد سكان جدد لمقابر تكاثرت في أطراف المدن. حُصرت آثار الموت على مجموعة من المقربين، واحتكرت معارض الدفن مراسيمه في الوقت الذي تكاثرت فيه إعلانات المشاريع “العلمية” عن إمكانية تجميد الأحياء الزمن الكافي لإعادة الحياة لهم في الوقت المناسب، وقت اكتشاف لقاح الموت. كل ما يلزم هو الانتظار، فتراكم السنوات التي يعيشها الإنسان في زمن الحداثة لا تحمل في طياتها إلا مزيداً من التقدم والتطور: “مستقبل جديد” ينتظر البشرية بفعل “التقدم” المقرون بالعلم في زمن “الحداثة”[1]. ظهر الإنسان مَلكاً على مصيره، يتحكم بموته، وأخذ العلم مكان الأساطير “القديمة”، حطّمها حين اتهمها بقلة الرصانة والتحقّق. فها هو يخلّص العالم من “نبوءة الكنسية” ويستحضر فكرة النعيم من الحياة الأخرى إلى الحياة الدنيا.

في أول ظهور لكورونا، وضعت تصور الحداثة والسيطرة في ذات المشرحة التي وضع العلم بها “الأساطير القديمة”. اقتحم الوباء حياتنا لينهي حقبة كاملة من أسطورة وهم السيطرة. فحرق الجثث على الهواء وأعاد الحقيقة للواجهة. جرّد زمن الحداثة من وهمه، والإنسان من قدرته، وظهر التخبط في الخطاب السياسي بكل اللغات. هزّ الوباء أركان النظام القائمة على فكرة اليقين والتوقع، وحلّ مكانها الخوف، الخوف من المستقبل، من الآخر، والتشكيك في النظام، في علماء النظام. اقتحم عدم اليقين من جديد مخيلة الإنسان الحداثي بعد أن نسيَها طوال قرون وهو يخطط تحت سطوة العلم لمستقبل جديد نحو التقدم والازدهار.

التقدم والفكر الاقتصادي السائد زمن الحداثة

لم يكن التنظير الاقتصادي الملهم لسياسة السوق بمنأى عن وهم السيطرة، بل ربما كان أهم من يجسدها. النجاعة والمهنية والتخطيط مفاتيح التقدم لمستقبل مشرق، لتنمية لا تحتاج إلا مزيداً من تراكم الوقت. نسختها الفلسطينية الأكثر وضوحاً كانت في خطاب سلام فياض عن التنمية (رديف التقدّم) ومراهناته على قدرة المخططين، المهنيين، أو بما عُرف بالتكنوقراط[2]. هم من سيقودون المركب لخلق نموذج تنمية يتفاخر به الفلسطيني ليس في الوطن العربي فحسب وإنما في العالم أجمع.

نجد جذور هذه النظرة لدى مؤسس مدرسة شيكاغو فرانك كنايت[3]. يركز كنايت على صاحب القرار (المخطِط) في قدرته على تحويل اللايقين في المستقبل إلى مخاطرة. فاللايقين في المستقبل خطر لا يمكن توقعه ولا حسابه، عكس المخاطرة الخاضعة للحسابات العقلانية وبالتالي إمكانية تحييدها والسيطرة عليها بفضل متخذ القرار. هكذا يرى الاقتصاد بنسخته السائدة اليوم فكرة المستقبل: تحويل اللايقين إلى مخاطرة يمكن حسابها بواسطة كفاءة التكنوقراط. من أجل التنمية، ما علينا إلا توظيف التكنوقراط القادر على تحويل اللايقين إلى مخاطرة يمكن حسابها لمستقبل مليء بالتقدم.

في الحالة الفلسطينية، كان نقد هذه الأسطورة سهلاً كون الزمن هو أول ما يصادره المستعمِر. يصادر الماضي والحاضر والمستقبل، يحدد القدرة على التوقع، يسجن المستعمَر في زمن الانتظار (انتظار رفع منع التجول، انتظار العودة، انتظار انتخاب الرئيس الأمريكي الجديد، انتظار على الحاجز، انتظار في الأسر، في خيمة اللجوء…) ويجعل المستقبل كله في حقل اللايقين. فكيف لأحدهم الحديث عن التنمية، عن السيطرة على المستقبل وربط تراكم الزمن بالتقدم بفعل قدرات المخطط في زمنية استعمارية مهمتها الأولى جعل اللايقين سمة وجودية لزمن المستعمَر المحروم من كل توقع؟ الكورونا وضع المجتمعات “المتقدمة” أمام هذا السؤال وكثّف سياق شبيه بالسياق الاستعماري لديها: كيف يمكننا الادّعاء بالسيطرة على الزمن، على المستقبل في عالم يقفل مدارسه بفعل فيروس؟

في مقابلة أجراها مؤخرا أدوان روزو[4]، يقارن مؤرخ الحرب العالمية الأولى زمن كورونا بزمن الحرب، يقول بما معناه (أترجم الفكرة هنا): “نحن لا نعيش الحرب، ولكن نحن نعيش زمن الحرب، في هذا الزمن بالتأكيد يوجد “يوم قبل” وهنالك بالتأكيد “يوم بعد” ولكن “يوم بعد” هذا لن يشبه “يوم قبل”، لن نستطيع رؤية العالم الذي تركناه قبل شهر… في الأزمات يتم فتح القوس الزمني، وكل ما يفكر به الإنسان هو أن يتم إغلاق هذا القوس، يفكر في طريقة الخروج، وقت المخرج، لكن ما هو مؤكد أن القوس لا يُقفل عادة”.
يعود المؤرخ هنا ضمناً لمفهوم كوزليك عن التاريخ[5]، تاريخ يُرسم بفعل تباعد الزمن الماضي “حقل التجارب” عن المستقبل “أفق الانتظار”. في الأزمات الكبرى، ينفرج التباعد ليفتح الأفق لأحداث تاريخية، للتاريخ، أحداث تجسّد تلاشى انتظار وفق ما مضى، لأفق انتظار لا ماضي فيه. انتظار بلا توقع، انتظار بلا يقين، انتظار لا يضمن حتمية التقدم التي قام عليها زمن الحداثة.

التوقع وسلوك الفرد والجماعات

على صعيد التوقع، في مداخلة سابقة مع عادل سمارة، أشرت لأثر التوقع في/على تحويلنا من “الاستهلاك” إلى “مجتمع استهلاك”. الاستهلاك لم يعد فقط لسد الحاجة بل للتمايز الاجتماعي، صار قيمة اجتماعية في مجتمع غير منتِج. الاستهلاك رديف للدرجة الاجتماعية (تكاثر الجيبات، التلفونات آخر صرعة، دخول الماركات للبلاد…)، بفعل تغيّر في المنظومة القيمية وليدة فكر “التنمية” والسيطرة على اللايقين. تماماً كما وصف نوربرت إلياس مجتمعات القصور وطبقة النبلاء: يصرفون للمحافظة على مراتبهم الاجتماعية لا بما يتناسب وقدرتهم الاقتصادية، يصرفون حتى لو تسبب ذلك في إفقارهم.

الاستهلاك في مجتمعنا لم يقتصر على القدرة الشرائية بل بحكم سياسة اقتصاد السوق والتسهيلات البنكية، صار يعتمد على توقع الدخل في المستقبل. استهلك الإنسان في الماضي ما توقعه دخلاً له في المستقبل. حتى التاجر الصغير والمنشآت الصغيرة، اعتمدوا على ذلك في استثمارهم، استثمروا بناءً على توقعاتهم المستقبلية في الدخل، أي أن حياة فئات لا يستهان بها من الشعب اعتمدت فكرة التوقع لتحديد ليس فقط سلوكها في المستقبل بل سلوكها الذي حصل في الماضي. سلوكها قبل أزمة كورونا اعتمد على توقع دخلها في المستقبل، مستقبل مقترن بالازدهار واليقين، فكيف سيكون سلوكها الآن لمستقبل تركه اليقين مع بداية الوباء؟ دون نسيان دخول الفلسطيني زمن الكورونا بعد فترة لا يستهان بها من الأزمات المالية المتراكمة بفعل الريع والاعتماد على من يحرمك حقك في اليقين. سنسمع أحاديثاً كثيرة عن شيكات آجلة كُتبت منذ سنين دون القدرة على سدادها. حتى أولئك القادرون على السداد، لن يفعلوا ليس فقط استغلالاً لظرف طارئ وإنما تخوفاً من مستقبل انقلب على ذاته وعكس معنى وجوده: تحول من التقدم واليقين إلى عدم القدرة والشك.

زمن جديد بفكر تلاشى

بهذا، أعادت كورونا اللايقين وطمست التوقع الذي هو أصلاً جزء لا يتجزأ من سلوك الماضي. كيف سيتصرف النظام السياسي عندما تختل أعمدة رؤيته الاقتصادية، بل وحتى فلسفة زمن الحداثة برمتها، اقتصاد التحكم باللايقين والتخطيط بناء على التوقع؟ ما حصل حتى الآن هو الاكتفاء ببعض الإجراءات “القانونية” التي تعتمد الرؤية السابقة التي قام عليها “النظام الاقتصادي” على الرغم من كل ما نستطيع تسجيله من تناقض بين ما يُصرّح به وما يُنفّذ على أرض الواقع.

ربما يستمر الوضع الراهن لزمن طويل، فهل علينا الاكتفاء بإجراءات “قانونية” وإدارية وبعض المراسيم التي لا تعكس حجم التغير الذي ستعصف به كورونا؟ ربما حان الوقت القول لصاحب القرار، والأمر ليس سهلاً، بالتفكير خارج إطار بنيان النظام القديم، والبدء بالتفكير الجماعي لخلق رؤية جديدة شاملة للزمن، تأخذ بالحسبان انهيار كامل الخطط الفردية والجمعية التي قامت على فكرة السيطرة على اللايقين والبناء بناءً على التوقع.
على الرغم من ضرورة التفاؤل وعدم الهلع، لا معنى للإجراءات التي تعمل على المحافظة على هيبة ممارسة السلطة أو ما تبقى منها في زمن تحول معنى وجوده. المحافظة على السلطة ليست الهدف، الممازحة في الرد على النكات، تجريد النقد السطحي على شبكات التواصل الاجتماعي بخطاب رسمي، المنافسة على من سيقول الحقيقة وتقاسم الوقت لإلقاء خطب بلاغية هو آخر ما يجب التفكير فيه لمجابهة الإعصار الذي جرد أسطورة السيطرة من سلاحها. نحن أمام زمن جديد، ليس فقط في فلسطين وإنما في العالم أجمع. ليس سهلاً  التنبؤ بما سيحصل، ولكن ربما على الجميع التفكير بأننا الآن بأشد الحاجة لرؤية جديدة، لبناء جديد ونظام اقتصادي جديد يعلن انفصالاً كاملاً عن فلسفة ضبط اللايقين وحتمية التقدم بفعل تراكم الزمن. نحن الآن في زمن جديد، في عالم يعيد رسم ذاته وليس فقط في كمامة تعذر وجودها بفعل الوباء.

[1]  تناولت الكثير من الدراسات مفهوم “زمن الحداثة”، أكتفي هنا بالإشارة للعمل الريادي للمؤرخ الألماني كوزليك “المستقبل الماضي”:

Koselleck R., [1990] 2016. Le futur passé. Contribution à la sémantique des temps historiques, nouvelle édition, Paris, EHESS

[2] للمزيد انظر:

Sbeih Sbeih, « Le temps du développement en Palestine », Temporalités [En ligne], 27 | 2018, mis en ligne le 04 juillet 2018, consulté le 16 avril 2020. URL : http://journals.openedition.org/temporalites/4552 ; DOI : https://doi.org/10.4000/temporalites.4552

[3] Franck Knight

[4]  انظر مقابلته “لن نرى أبداً العالم الذي تركناه قبل شهر”:

https://www.mediapart.fr/journal/culture-idees/120420/stephane-audoin-rouzeau-nous-ne-reverrons-jamais-le-monde-que-nous-avons-quitte-il-y-un-mois?onglet=full&fbclid=IwAR1VfTk8PqtSX2eqwfoanyuI1X2jjH1MwWeVO-Gejq-6GTmnOg5V1x0guCE

[5]  مصدر سابق “المستقبل الماضي”.